نحيا مع أشخاص لسنين ومع ذلك تظل جوانب من شخصياتهم غير معروفة لنا وأحيانا جوانب خفية لا نتوقعها
يحدث أن يظل جزء من حياة الآباء/ الأمهات/ الأبناء/ الزوجات /الأزواج / الأشقاء مجهول حتى لأقرب الأقربين
والدي كما كتبت سابقا كان شخصية جادة للغاية، لم يكن يتحدث كثيرا أو يحكى عن حياته قبل الزواج رغم أنه تزوج متأخرا، وقد سمعنا من أقارب مثلا أنه كان "دون جوان" كبير قبل زواجه، وهو أمر أستغربه لأنه لم يترك لدينا انطباعا بأنه ينظر إلى السيدات مثلا ونحن نسير أو حين نكون فى مكان عام، حتى أيام زمان حين كانت الملابس القصيرة والأناقة اللافتة سمة معتادة فى النساء فى فى الشارع أو النادي
أيضا سمعت "طراطيش" كلام أن بابا فى مرحلة ما من حياته الزوجية كان يعرف امرأة أخرى فيما يشبه النزوة، وقد علمت والدتي بالأمر وكانت هناك أزمة ما بينهما، لا أعرف تفاصيل هذه القصة، ربما شقيقاتي الأكبر سنا يعرفن تفاصيلها، ولكنى لم اسألهن وبصراحة لا أشعر برغبة فى معرفة التفاصيل، ولكنه بالتأكيد موقف أيضا غير منسجم مع شخصيتة كما عرفناها ولمسناها
وقبل وفاته بشهور قليلة جدا، كانت حالته الصحية فى غاية السوء فلم يكن يرى تقريبا أو يسمع كما فقد القدرة على الحركة إلى حد كبير، وفى يوم كنا نجلس أنا وهو ووالدتي نشاهد التليفزيون ـ أو بالأدق نشاهد أنا ووالدتي التليفزيون ـ ولا أدرى كيف تطرق بنا الحديث وإذا بابا يبدأ فى حكاية ذكريات من طفولته أسمعها لأول مرة، فلم نكن معتادين أن نستمع منه عن حكايات طفولة أو مراهقة، ولكنه ذلك المساء حكى عن ذكريات حدثت فى الثلاثينيات من القرن الماضي، يعنى بالنسبة لى كان يتحدث عن عالم مختلف تماما
فى وسط حكاياته فوجئت به يذكر أنه قد هرب ذات يوم وهو صغير من منزل الأسرة لعدة أيام
الاعتراف كانت وقعه غريبا، فسألته عن سبب هروبه فقال انه لا يتذكر تماما السبب، ثم استمر يحكى عن ذكريات أخرى، وقامت بعدها ماما وتركت الغرفة، فوجدت بابا يسأل:
ـ مامتك راحت فين؟
أجبت: متهيألى جوه فى المطبخ بتعمل حاجة
ـ طيب هاحكيلك دلوقتى أنا ليه هربت من بيت والدى، علشان محبتش أحكى ومامتك موجوده
اندهشت لأنه لم يكن من النوع الذي ينم أو يحكى أسرار أو من وراء ظهر أحد، كانت شخصيته قوية ومباشرة فى كل المواقف
ثم بدأ يحكى أنه حين كان فى الثانية عشرة تقريبا كان يحب فتاه أكبر منه بعام أو عامين، وأنه حاول لفت نظرها دون جدوى، ويبدو أن والد الفتاة اشتكى لجدي من أفعال أبى، وحين علم بابا بأن والده صاحب الشخصية الصارمة عرف بالأمر انتابه خوف شديد ولم يسعفه تفكيره سوى فى الهرب إلى قرية مجاورة لعدة أيام.
أضاف والدي أنه كان من المعتاد فى الريف ذلك الزمن عند غياب شخص وخاصة طفل يقوم أهله بتعيين "منادى" يقوم بالنداء على الشخص التائه فى القرى والحقول المجاورة، وهو ما تم فعلا حتى عاد والدي مرة أخرى للمنزل
حين أتذكر هذا الموقف الآن أتساءل، ما الذي جعل بابا الذى تعدى الثمانين عاما آنذاك يخشى أن يتحدث عن قصة حب "عيالي" حدثت منذ 60 عاما؟ الم يكن من الأولى إذا كان يخشى رد فعل ماما أن لا يمر بالنزوة التي مر بها وهو متزوج؟ هل هذه النزوة كانت درسا له وبات يخشى إغضاب والدتي حتى بقصة حب من طرف واحد حين كان مجرد طفل؟ هل الكبر والعجز والإحساس بدنو الأجل جعله أكثر ضعفا وأكثر حساسية وإدراكا لمشاعر ماما؟
لا أدرى، ولكنى أحببت دلالة هذا الموقف، وأيا كان تفسيره فقد كان في رأيي تصرفا يدل على الحب والحرص على المشاعر فى وقت قد نجد فيه كل التبريرات ـ من مرض وعجز وكبر سن وقدم الذكريات ـ لكي نحكى دون خوف أو مراعاة لحساسية الآخرين، ولكن يبدو أن كل هذه التبريرات لم تكن كافية لبابا ليحكى أمام ماما
جانب لا أعلمه من شخصيته ظل غامضا على المعرفة وبالتالي على الفهم رغم السنوات الطويلة في المنزل ومرورنا كأي أسرة بكل المواقف والإحداث، ولكنى أعود أيضا أسأل نفسي
لما الدهشة؟ وهل يعرف المقربون منى كل جوانب شخصيتي وحياتي؟
فلا أجد سوى ابتسامة ساخرة تتسلل إلى وجهي
.
يحدث أن يظل جزء من حياة الآباء/ الأمهات/ الأبناء/ الزوجات /الأزواج / الأشقاء مجهول حتى لأقرب الأقربين
والدي كما كتبت سابقا كان شخصية جادة للغاية، لم يكن يتحدث كثيرا أو يحكى عن حياته قبل الزواج رغم أنه تزوج متأخرا، وقد سمعنا من أقارب مثلا أنه كان "دون جوان" كبير قبل زواجه، وهو أمر أستغربه لأنه لم يترك لدينا انطباعا بأنه ينظر إلى السيدات مثلا ونحن نسير أو حين نكون فى مكان عام، حتى أيام زمان حين كانت الملابس القصيرة والأناقة اللافتة سمة معتادة فى النساء فى فى الشارع أو النادي
أيضا سمعت "طراطيش" كلام أن بابا فى مرحلة ما من حياته الزوجية كان يعرف امرأة أخرى فيما يشبه النزوة، وقد علمت والدتي بالأمر وكانت هناك أزمة ما بينهما، لا أعرف تفاصيل هذه القصة، ربما شقيقاتي الأكبر سنا يعرفن تفاصيلها، ولكنى لم اسألهن وبصراحة لا أشعر برغبة فى معرفة التفاصيل، ولكنه بالتأكيد موقف أيضا غير منسجم مع شخصيتة كما عرفناها ولمسناها
وقبل وفاته بشهور قليلة جدا، كانت حالته الصحية فى غاية السوء فلم يكن يرى تقريبا أو يسمع كما فقد القدرة على الحركة إلى حد كبير، وفى يوم كنا نجلس أنا وهو ووالدتي نشاهد التليفزيون ـ أو بالأدق نشاهد أنا ووالدتي التليفزيون ـ ولا أدرى كيف تطرق بنا الحديث وإذا بابا يبدأ فى حكاية ذكريات من طفولته أسمعها لأول مرة، فلم نكن معتادين أن نستمع منه عن حكايات طفولة أو مراهقة، ولكنه ذلك المساء حكى عن ذكريات حدثت فى الثلاثينيات من القرن الماضي، يعنى بالنسبة لى كان يتحدث عن عالم مختلف تماما
فى وسط حكاياته فوجئت به يذكر أنه قد هرب ذات يوم وهو صغير من منزل الأسرة لعدة أيام
الاعتراف كانت وقعه غريبا، فسألته عن سبب هروبه فقال انه لا يتذكر تماما السبب، ثم استمر يحكى عن ذكريات أخرى، وقامت بعدها ماما وتركت الغرفة، فوجدت بابا يسأل:
ـ مامتك راحت فين؟
أجبت: متهيألى جوه فى المطبخ بتعمل حاجة
ـ طيب هاحكيلك دلوقتى أنا ليه هربت من بيت والدى، علشان محبتش أحكى ومامتك موجوده
اندهشت لأنه لم يكن من النوع الذي ينم أو يحكى أسرار أو من وراء ظهر أحد، كانت شخصيته قوية ومباشرة فى كل المواقف
ثم بدأ يحكى أنه حين كان فى الثانية عشرة تقريبا كان يحب فتاه أكبر منه بعام أو عامين، وأنه حاول لفت نظرها دون جدوى، ويبدو أن والد الفتاة اشتكى لجدي من أفعال أبى، وحين علم بابا بأن والده صاحب الشخصية الصارمة عرف بالأمر انتابه خوف شديد ولم يسعفه تفكيره سوى فى الهرب إلى قرية مجاورة لعدة أيام.
أضاف والدي أنه كان من المعتاد فى الريف ذلك الزمن عند غياب شخص وخاصة طفل يقوم أهله بتعيين "منادى" يقوم بالنداء على الشخص التائه فى القرى والحقول المجاورة، وهو ما تم فعلا حتى عاد والدي مرة أخرى للمنزل
حين أتذكر هذا الموقف الآن أتساءل، ما الذي جعل بابا الذى تعدى الثمانين عاما آنذاك يخشى أن يتحدث عن قصة حب "عيالي" حدثت منذ 60 عاما؟ الم يكن من الأولى إذا كان يخشى رد فعل ماما أن لا يمر بالنزوة التي مر بها وهو متزوج؟ هل هذه النزوة كانت درسا له وبات يخشى إغضاب والدتي حتى بقصة حب من طرف واحد حين كان مجرد طفل؟ هل الكبر والعجز والإحساس بدنو الأجل جعله أكثر ضعفا وأكثر حساسية وإدراكا لمشاعر ماما؟
لا أدرى، ولكنى أحببت دلالة هذا الموقف، وأيا كان تفسيره فقد كان في رأيي تصرفا يدل على الحب والحرص على المشاعر فى وقت قد نجد فيه كل التبريرات ـ من مرض وعجز وكبر سن وقدم الذكريات ـ لكي نحكى دون خوف أو مراعاة لحساسية الآخرين، ولكن يبدو أن كل هذه التبريرات لم تكن كافية لبابا ليحكى أمام ماما
جانب لا أعلمه من شخصيته ظل غامضا على المعرفة وبالتالي على الفهم رغم السنوات الطويلة في المنزل ومرورنا كأي أسرة بكل المواقف والإحداث، ولكنى أعود أيضا أسأل نفسي
لما الدهشة؟ وهل يعرف المقربون منى كل جوانب شخصيتي وحياتي؟
فلا أجد سوى ابتسامة ساخرة تتسلل إلى وجهي
.